موقف
الإمام علي عليه السلام من الشورى
قام عُمَر بن الخَطَّاب قبل وفاته
بِتَعيين ستة أشخاص، مُهَمَّتُهم
عقدُ اجتماع لغرض تعيين خليفة من
بعده، وهم كالآتي:
1- عُثمان بن عَفَّان.
2- سَعد بن أبي وَقَّاص.
3- طَلحة بن عبيد الله.
4- عبد الرحمن بن عوف.
5- الزبَير بن العَوَّام.
6- علي بن أبي طالب عليه السلام.
فقام عُمَر بجمع هؤلاء الستة،
وأخذ يُدلي عليهم اتجاهاتهم
وميولهم، ويحدثهم عن نفسياتهم.
فاتَّجَهَ صوب الزبَير فقال له: "أما
أنت يا زبَير فَوَعق لقس، مؤمن
الرضا، كافر الغضب، يوماً إنسان،
ويوماً شيطان، وَلَعلَّها لو
أَفضتُ إليك ظلت يومك تلاطم
بالبطحاء على مَدٍّ من شعير.
فرأيت إن أَفضتُ إليك فليت شعري
من يكون للناس يوم تكون شيطاناً،
ومن يكون يوم تغضب؟! وما كان الله
لِيجمع لك أمر هذه الأمة وأنت على
هذه الصفة".
فإن الزبَير حسب هذا التحليل
النفسي لشخصيته مبتلى بآهاتٍ
خطيرة وهي: الضجر، والتَبَرُّم،
وعدم الاستقامة في سلوكه، والغشب
الهائل الذي يفقده الرشد والتوازن،
والحرص، والبخل.
وهذه النزعات من مساوئ الصفات،
ومن اتَّصف ببعضها لا يصلح لأن
يتولى أيَّ منصبٍ حسَّاس في جهاز
الدولة، فضلاً عن أن يكون خليفة
وإماماً للمسلمين.
ثم أقبل على طلحة فقال له: "أقول
أم أسكت؟"، فَزَجرَهُ طلحة.
فقال له: "إنك طلحة".
ثم قال: "إنك لا تقول من الخير
شيئاً، أما إني أعرفك منذ أصيبَتْ
إصبعك يوم أحد وائياً بالذي حدث
لك، ولقد مات رسول الله صلى الله
عليه وآله ساخطاً عليك بالكلمة
التي قلتَهَا يوم أُنزِلت آية
الحجاب".
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه
وآله ساخطاً على طلحة فكيف
يُرَشَّحه خليفة وإماماً للمسلمين؟!
كما أن هذا يناقض ما قاله: إن
رسول الله صلى الله عليه وآله مات
وهو راضٍ عن أعضاء الشورى.
ثم اتَّجه صوب سعد بن أبي وقاص
فقال له: "إِنَّما أنتَ صاحبُ
مقنب من هذه المقانب تقاتل به،
وصاحب قنص وقوس وسهم، وما زهرة
والخلافة وأمور الناس".
فَسَعد رجل عسكري، لا يفقه إلا
عمليات الحروب، ولا خبرة له
بالشؤون الإدارية والاجتماعية
للأمة، فكيف يرشحه للخلافة؟!
كما طعنَ في صلاحية قبيلة سَعد
لِتَوَلِّي شؤون الحكم.
وأقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال
له: "أما أنت يا عبد الرحمن، فلو
وُزِنَ نصف إيمان المسلمين
بإيمانك لرجح إيمانك عليهم، ولكن
ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف
كضعفك، وما زهرة وهذا الأمر.
فعبد الرحمن – حسب رأي عُمَر –
رجل إيمانٍ وتقوى، ثم إنه لم تكن
له شخصية قوية، ولا عزم ثابت، ولا
إرادة صلبة – حسب اعتراف عُمَر –،
فكيف يرشحه للخلافة؟!
كيف يجعل قوله منطق الفصل في
تعيين من يشاء لشؤون الأمة؟!
والتفت إلى الإمام علي عليه
السلام فقال له: "للهِ أن
لَولا دُعَابَة فيك، أَمَا واللهِ
لَئِن وَلَّيتَهُم لَتَحمِلَنَّهم
على الحق الواضح والمَحِجَّة
البيضاء".
لكن متى كانت للإمام عليه السلام
دعابة، وهو الذي ما أَلِف في
حياته إلا الجِدَّ والحزمَ في
القول والعمل.
ثم أن من يتصف بهذه النزعة كيف
يتمكن أن يحمل المسلمين على الحق
الواضح والمحجة البيضاء - كما
يقول عمر - إن هذه السياسة تتنافى
مع الدعابة الناشئة عن ضعف
الشخصية وخورها.
وأكَّدَ عُمَر أن الإمام علي عليه
السلام لَو وَلِي أمور المسلمين
لَسَار فيهم بالحق، وحملهم على
الصراط المستقيم، فكيف يجعله من
أعضاء الشورى، ولا ينصُّ عليه
بالخصوص؟
وهل من الحيطة على الأمة أن
يُفَوِّتَ عليها الفرصة، ولا
يُسَلِّم أمرها بيد من يَسيرُ
فيها بسيرة قُوامُها العدل الخالص
والحَقُّ المَحِض؟!
ثم أقبل على عثمان عميد الأسرة
الأموية التي ناهضت الإسلام فقال
له: "هيها إليك، كأني بك قد
قَلَدَتْكَ قريش هذا الأمر
لِحُبِّهَا إيَّاك، فحملت بني
أمية وبني أبي مُعيط على رقاب
المسلمين، وآثرتهم بالفيء، فسارت
إليك عصابة من ذؤبان العرب،
فذبحوك على فراشك ذبحاً، والله
لئن فعلوا لَتفعلَنَّ، ولَئن فعلتَ
لَيفعلَنَّ، ثم أخذ بناصيته فقال:
فإذا كان ذلك فاذكر قولي".
وإذا تأمَّلنا قليلاً في قوله
لعثمان: "كأني بك قد
قَلَّدَتْكَ قريش هذا الأمر
لِحُبِّها إياك"، نجده قد
قَلَّد عثمان بالخلافة.
موقف
الإمام عليه السلام
والتاع الإمام علي عليه السلام
وحزن أشدّ الحزن وأقساه، وعرف أن
الشورى إنما هي مؤامرة ومكيدة
دُبِّرَت لصرف الأمر عنه، فقد
التقى بعمه العباس فبادره عليه
السلام قائلاً: يا عم، لقد
عدلت عنا.
فقال عمه: من أعلمك بذلك؟
فقال عليه السلام: لقد قُرِن
بني عثمان وقال: كونوا مع الأكثر.
ثم قال: كونوا مع عبد الرحمن،
وسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن،
وعبد الرحمان صِهرٌ لعثمان، وهم
لا يختلفون، فإما أن يُوَلّيها
عبد الرحمن عثمان، أو يُوَلّيها
عثمان عبد الرحمن.
وَصَدَقَ تَفَرّس الإمام عليه
السلام، فقد وَلاّها عبد الرحمن
لعثمان إيثاراً لمصالحه وابتغاء
رجوعها إليه من بعده.
عملية
الانتخاب
ولما مات عمر ودفن في مَقرّه
الأخير أحاط الشرطة بأعضاء الشورى،
فألزمتهم بالاجتماع واختيار حاكم
للمسلمين من بينهم، وذلك تنفيذاً
لوصية عمر.
فاجتمعوا وتداول الأعضاء فيما
بينهم الحديث عَمّن هو أحَقّ
بالأمر وأولى به، وكثر الصخَب
والجدل، وانبرى إليهم الإمام علي
عليه السلام فَحذّرهم مغبة ما
يحدث من الفتن والفساد إن
استجابوا لعواطفهم ولم يؤْثِروا
مصلحة الأمة، فقال عليه السلام:
"لم يُسرع أحد قَبلي إلى دعوة
حق، وصِلَة رَحِم، وعائدة كرم،
فاسمعوا قولي، وَعُوا منطقي، عَسى
أن تروا هذا الأمر من بعد هذا
اليوم تنتظي فيه السيوف، وتُخان
فيه العهود، حتى يكون بعضكم أئمة
لأهل الضلال، وشيعة لأهل الجهالة".
وعَمّ الجدل بين القوم، فلم
ينتهوا إلى غاية مريحة، فانفضّت
الجلسة على غير طائل، وجماهير
الشعب تنتظر بفارغ الصبر النتيجة
الحاسمة.
وعُقد الاجتماع مرة أخرى، إلا أنه
باء بالفشل، فأشرف عليهم أبو طلحة
الأنصاري وهو يتهدد ويتوعد قائلا:
"لا والذي نفس عمر بيده، لا
أزيدكم على الأيام الثلاثة التي
أمرتم".
واقترب اليوم الثالث – وهو آخر
موعد للقوم – فانعقد الاجتماع،
وبدت فجأة الاندفاعات التي شَذّت
عن مصلحة الأمة، فقد انبرى طلحة
فوهب حقّه لِعُثمان، وإنما فعل
ذلك استجابة لعواطفه المترعة
بالكراهية للإمام عليه السلام
لأنه نافس ابن عمه أبا بكر على
الخلافة.
واندفع الزبير فوهب حقه للإمام
عليه السلام لأنه تربطه به رحم
ماسة، وانطلق سعد فوهب حقه لابن
عمه عبد الرحمن بن عوف تقويةً
لجانبه، وتعزيزاً لمركزه.
وكان رأي عبد الرحمن هو الفيصل،
وجانبه هو المرموق، لأن عمر قد
وضع ثقته به، وأناط به أمر الشورى،
إلا انه كان ضعيف الشخصية، هزيل
الإرادة، لا قدرة له على تحمل
مسؤولية الحكم.
فأجمع رأيه على أن يرشح غيره
للخلافة، وكان له هوى مع عثمان
لأنه صهره، وقد استشار عامّةَ
القرشيّين في الأمر فزهّدوه في
الإمام علي عليه السلام، وحرّضوه
على انتخاب عثمان لأنه يحقّق
أطماعهم ورغباتهم.
وحلّت الساعة الرهيبة التي غيرت
مجرى التاريخ، فقال عبد الرحمن
لابن أخته: يا مسور، اذهب فادعُ
علياً وعثمان.
وانطلق مسور فدعاهما، وازدحم
المهاجرون والأنصار وسائر الناس
في الجامع، فانبرى عبد الرحمن،
فعرض عليهم الأمر وقال: أيها
الناس، إن الناس قد اجتمعوا على
أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم،
فأشيروا عليّ.
فتقدم إليه عمار بن ياسر فأشار
عليه بما يضمن للأمة سلامتها
ويصونها من الفرقة والاختلاف
قائلا: إن أردت أن لا يختلف
المسلمون فبايع علياً، وانطلق
المقداد فأيّد مقالة عمار قائلاً:
صدق عمار، إن بايعتَ علياً سمعنا
وأطعنا.
واندفعت القوى الباغية والحاقدة
على الإسلام وهي تشجب مقالة عمار
والمقداد وتدعوا إلى ترشيح عثمان
عميد الأمويين، وقد هتف عبد الله
بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً:
إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع
عثمان.
واندفع عبد الله بن أبي ربيعة
فأيد مقالة زميله قائلاً: إن
بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.
وانبرى عمار بن ياسر فردّ على ابن
أبي سرح قائلاً: متى كنت تنصح
للمسلمين؟!
وصدق عمار، فمتى كان ابن أبي سرح
ينصح المسلمين، أو يرجو وقاراً
للإسلام، فقد كان من أعدى الناس
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.
وكثر النزاع واحتدم الجدال بين
القوى الإسلامية وبين القرشيين،
فخاف سعد أن يفوت الأمر من القوم،
فالتفت إلى ابن عمه عبد الرحمن
قائلاً له: يا عبد الرحمن، اِفرغ
من أمرك قبل أن يفتتن الناس.
فالتفت عبد الرحمن إلى الإمام
عليه السلام قائلاً: هل أنت
مبايعي على كتاب الله وسُنّة
نبيّه، وفعل أبي بكر وعمر؟
فرمقه الإمام عليه السلام بطرفه
وعرف غايته، فأجابه بمنطق الإسلام
ومنطق الأحرار: "بل على كتاب
الله، وسُنّة رسوله، واجتهاد رأيي".
ولما يئس عبد الرحمن من تغيير
اتجاه الإمام انبرى إلى عثمان
فشرط عليه ذلك فسارع إلى إجابته،
وأظهر استعداده الكامل لكل ما
شرطه عليه.
ويبدو أن هناك اتفاقاً سرّياً
بينهما أحيط بكثير من الكتمان،
فإنه بأي حال لا ينتخب الإمام وإن
أجابه إلى ما شرطه عليه، وإنما
طلب منه البيعة لأجل التغطية على
مخططاته فاستعمل هذه المناورة
السياسية.
يقول المؤرخون: إن عبد الرحمن
بادر إلى عثمان فَصفّقَ بكفه على
يده وقال له: اللهم إني قد جعلت
ما في رقبتي من ذاك في رقبة
عثمان.
ووقعت هذه
المبادرة كصاعقة على
القوى الخيرة التي جهدت
على أن يسود حكم الله بين
المسلمين، وانطلق الإمام
عليه السلام صوب ابن عوف
فخاطبه قائلاً: "والله ما
فعلتها إلا لأنك رجوتَ
منه ما رجا صاحبكما من
صاحبه، دَقّ الله بينكما
عطر منشم". |
وألقى الإمام
عليه السلام الأضواء على اختيار
عبد الرحمن لعثمان من أنه لم يكن
من صالح الأمة وإنما كان وليد
الأطماع والأهواء السياسية، فقد
رجا ابن عوف أن يكون خليفة من بعد
عثمان.
ثم اتجه الإمام صوب القرشيين فقال
لهم: "ليس هو أول يومٍ
تظاهرتُم فيه علينا، فَصبرٌ جميلٌ
والله المُستَعَان على ما
تَصِفُون".
ولَذع منطق الإمام عليه السلام
ابن عوف، فراح يهدد الإمام عليه
السلام قائلاً: يا علي، لا تجعل
على نفسك سبيلاً.
فغادر الإمام المظلوم المُهتَضَم
قاعة الاجتماع وهو يقول: "سَيبلُغ
الكتابُ أجلَه".
وانتهت بذلك مأساة الشورى التي
أخلدَتْ للمسلمين الفتن، وألقتهم
في شرٍّ عظيم.
استجابة الإمام عليه السلام
بقي هنا شيء يدعو للتساؤل، وهو أن
الإمام لماذا استجاب لأن يكون من
أعضاء الشورى مع وجود المفارقات
الواضحة بينه عليه السلام وبينهم؟
وقد أجاب عليه السلام عن ذلك بأنه
أراد أن يظهر تناقض عمر، فقد أعلن
غير مَرّة أن النبوة والخلافة لا
يجتمعان في بيت واحد، فلماذا إذن
جعله من أعضاء الشورى المُرشّحين
للخلافة؟!.
ومن غريب أمر هذه الشورى أن عمر
قد شهد في حق أعضاء الشورى أن
النبي صلى الله عليه وآله مات وهو
عنهم راضٍ، أو أنه شهد لهم بالجنة،
وقد عهد إلى الشرطة بضرب أعناقهم
إن تأخروا عن انتخاب أحدهم. |