فلسفة
الأمر بالمعروف عند الإمام علي
عليه السلام
مدح الله في كتابه الكريم
المسلمين من أهل الكتاب، وهم
أتباع الأنبياء السابقين قبل بعثة
النبي محمد صلى الله عليه وآله
لوعيهم لهذه الفريضة، وهي الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر،
والعمل بها.
وهذا ممَّا يكشف عن أنها فريضة
عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره
وصِيَغه، وأنها قد كانت فريضة
ثابتة في جميع مراحله التشريعيّة
التي جاء بها أنبياء الله تعالى
جيلاً بعد جيل.
فقال تعالى:
﴿ليْسُوا سَوَاءً مِّنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ
قَآئِمَةٌ يَتلُونَ آيَاتِ اللهِ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُم
يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ
وَيُسَارِعُوْنَ فِي الخَيْرَاتِ
وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
آل عمران: 113 - 114.
وقد كان إحياء هذه الفريضة
وجَعلها إحدى هواجس المجتمع من
شواغل الإمام عليه السلام الدائمة.
وقد تناولها عليه السلام في خطبه
وكلامه – كما تعكس لنا ذلك
النماذج التي اشتمل عليها نهج
البلاغة – من زوايا كثيرة، منها:
1- أنها قضية فكرية لا بُدَّ أن
تُوعَى لِتُغني الشخصية الواعية.
2- أنها قضية تشريعية تدعو
الأمَّة والأفراد إلى العمل.
ومن هذين المنظورين عالجها عليه
السلام بِعِدَّة أساليب، فقد
أعطاها منزلة عظيمة تستحقها بلا
شك بين سائر الفرائض الشرعية.
فجعلَها إحدى شعب
الجهاد الأربع: "والجهادُ
منها – من دعائمِ
الإيمانِ – على أربعِ
شُعَبٍ: على الأمرِ
بالمعرُوف، والنَّهي عن
المُنكرِ، والصِّدقِ في
المواطن، وشنآن
الفاسقينَ.
فمن أمرَ بالمعرُوفِ شدَّ
ظُهُور المؤمنين، ومن نهى
عن المُنكرِ أرغم أنُوف
الكافرين، ومن صَدَق في
المواطن قضى ما عليه، ومن
شنِئ الفاسِقِين وغضِب
لله غضِب اللهُ له،
وأرضاهُ يوم القيامةِ". |
ومن السهل
علينا أن نفهم الوجه في تقدم هذه
الفريضة على غيرها إذا لاحظنا أن
أعمال البِرِّ تأتي في الرتبة،
بعد استقامة المجتمع وصلاحه
المبدئي – الشرعي والأخلاقي –،
وأن الجهاد لا يكون ناجعاً إلا
إذا قام به جيش عقائدي.
وهذه كلّها تتفرع من الوعي
المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن
الحد الأدنى للالتزام المسلكي
بهما.
وإذا كانت مراتب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر تتدرج صاعدة من
الإنكار بالقلب إلى الإنكار
باللسان إلى الإنكار باليد،
وللإنكار باللسان درجات، وللإنكار
باليد درجات.
وإذا كانت الحالات العادية للأمر
والنهي تتفاوت في خطورتها
وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة
من الإنكار أو تلك.
فإن الحالات الكبرى التي لا بُدَّ
فيها من تدخل الحاكم العادل،
والأمة كلها قد تبلغ درجة من
الخطورة التي لا بُدَّ فيها من
الإنكار بالقلب واللسان، وأقصى
حالات الإنكار باليد وهو
القِتَال.
وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع
الإسلامي في عهد الإمام عليه
السلام، فيتمثَّل تارة في ناكثي
البيعة الذين خرجوا على الشرعية
واعتدوا على مدينة البصرة.
ولم تفلح دعوته عليه السلام لهم
بالحسنى في عودتهم إلى الطاعة،
واضطرّوه إلى أن يخوض ضدهم معركة
الجمل في البصرة.
ويتمثَّل تارة أخرى في المتمردين
على الشرعية في الشام بقيادة
معاوية بن أبي سفيان الذي رفض
جميع الصيغ السياسية التي عرضها
عليه الإمام عليه السلام، ليعود
من خلالها إلى الشرعية.
وتارة في المارقين الخوارج على
الشرعية والذين رفضوا كل عروض
السلام التي قُدِّمت لهم، وأصرّوا
على الفتنة، ومارسوا الإرهاب ضد
الفلاَّحين والآمنين والأطفال
والنساء.
وفي هذه الحالات وأمثالها على
المسلم المستقيم أن يبرأ من
الانحراف في قلبه، وأن يدينَه
عَلناً بلسانه، وأن يَنخَرِطَ في
أي حركة يقودها الحاكم العادل
لتقويم الانحراف بالقوة إذا اقتضى
الأمر ذلك.
ونلاحظ أن الإمام
عليه السلام وضع للإنكار
بالسيف – وهو أقصى مراتب
الإنكار باليد – شرطاً،
وهو أن تكون الغاية منه
إعلاء كلمة الله، وليس
العصبيَّة العائلية، أو
العُنصُريَّة، أو المصلحة
الخاصة، أو العاطفة
الشخصية. |
وهذا شرط في
جميع أفعال الإنسان، وفي جميع
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
إِلا أنَّ الإمام عليه السلام
صرَّح به في هذه المرتبة لخطورة
الآثار المترتِّبة على القيام بها
حيث أنها قد تؤدي إلى الجرح أو
القتل.
ويقدِّر الإمام عليه السلام أنَّ
كثيراً من الناس يتخاذلون عن
ممارسة هذا الواجب الكبير، فلا
يأمرون بالمعروف تاركَهُ، ولا
ينهون عن المنكر فَاعِلُه.
وذلك بسبب ما يتوَّهمون من أداء
ذلك إلى الإضرار بهم، كَتَعريضِ
حياتهم للخطر، أو تعريض علاقاتِهم
الاجتماعية للاهتزاز والقلق، أو
تعريض مصادر عيشهم للانقطاع، وما
إلى ذلك من شؤون.
فقال عليه السلام: "وإنَّ
الأمرَ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ
المُنكرِ لخُلُقان مِن خُلُق الله
سُبحانه، وإنَّهُما لا يُقرِّبان
مِن أجَلٍ، ولا ينقصانِ مِن رزقٍ".
وكما قلنا سابقاً من أنَّ إحياء
هذه الفريضة، وجعلها إحدى هواجس
المجتمع الدائمة، وإحدى الطاقات
الفكرية الحَيَّة المحركة للمجتمع،
كان من شواغل الإمام عليه السلام
الدائمة.
وكان يحمله على ذلك عاملان:
أولاهما: أنه عليه السلام
إمام المسلمين، وأمير المؤمنين،
ومن أعظم واجباته شأناً أن يراقب
أمَّتَه، ويعلِّمها ما جَهِلَت،
ويُعمِّق وَعْيَها ممَّا عَلِمَت،
ويجعل الشريعة حَيَّة في ضمير
الأمة وفي حياتها.
ثانيهما: هو قضيته عليه
السلام الشخصية في معاناته لمشاكل
مجتمعه الداخلية والخارجية في
قضايا السياسة والفكر.
فقد شكا الإمام عليه السلام كثيراً
من النخبَة في مجتمعه، وأدان هذه
النخبَة بأنها نخبة فاسدة في
الغالب، لأنها لم تلتزم بقضية
شعبها ووطنها، وإنما تَخَلَّت عن
هذه القضية سعْياً وراء آمال
شخصية وغير أخلاقية.
وإذ يئس الإمام عليه السلام من
التأثير الفَعَّال في هذه النخبة،
فقد توجَّه عليه السلام بشكواه
إلى عَامَّة الشعب، محاولاً أن
يحرّكه في اتجاه الالتزام العملي
بقضيته العادلة، وموجهاً وعيه نحو
الأخطار المستقبلية، ومحذِّراً من
تَطَلّعات نُخبَته.
فقد كانت شكواه عليه السلام
وتحذيراته المُترَعة بالمَرارة
والألم نتيجة لمعاناته اليومية
القاسية من مجتمعه بوجه عام، ومن
نُخبَة هذا المجتمع بوجه خاص.
ولا بُدَّ أن هؤلاء وأولئك قد
سمعوا من الإمام عليه السلام
مِراراً كثيرة مثل الشكوى التالية
التي قالها عليه السلام في أثناء
كلامٍ له عن صِفَة مَن يَتَصدَّى
للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل:
فقال عليه السلام: "إِلى اللهِ
أشكُو مِن معشر يعيشُون جُهَّالاً
ويمُوتُون ضُلاَّلاً، ليس فيهم
سِلعة أبورُ مِن الكتاب إذا تُلي
حقَّ تلاوتهِ، ولا سِلعة أنفقُ
بيعاً ولا أغلى ثمناً مِن الكِتاب
إذا حُرِّف عن مواضعهِ، ولا
عندهُم أنكر من المعرُوف ولا أعرفُ
من المُنكرِ".
وقد بَلَغ عليه السلام من خطورة
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر عند الإِمام عليه السلام
أنه جعلها إحدى وصاياه البارزة
الهامة لابنيهِ الإمامين الحسن
والحسين عليهما السلام.
وقد تكرّرت هذه الوصية مرتين،
إحداهما لابنه الإِمام الحسن عليه
السلام في وصيته الجامعة.
والأخرى في وصيته عليه السلام
للإمامين الحسن والحسين عليهما
السلام في وصيته لهما وهو على
فراش الاستشهاد، بعد أن ضربه ابن
ملجم المرادي (لعنه الله) بالسيف
على رأسه في المسجد عند قيامه
عليه السلام من السجود.
فقال عليه السلام في الوصية
الأولى لابنه الحسن عليه السلام:
"وأمُرْ بِالمعرُوفِ تكُن من
أهلهِ، وأنكِرِ المُنكر بيدك
ولِسانِك، وبَايِنْ من فعلهُ
بجُهدك، وجاهِدْ في الله حقَّ
جهادِه، ولا تأخُذك في الله
لَومَةُ لائمٍ".
وقال عليه السلام في الوصية
الثانية لابنيه الحسنين عليهما
السلام "أوصيكُما وجميع
ولدِي وأهلي ومن بَلَغه كتابي..
إلى أن قال بعد عِدَّة وصايا –:
وعليكُم بالتّواصُلِ والتّباذُلِ،
وإيَّاكُم والتدابُر والتّقاطُع،
لا تترُكُوا الأمر بالمعروفِ
والنَّهي عن المُنكرِ، فيُوَلَّى
عليكُم شِرارُكُم، ثُمَّ تَدعُونَ
فلا يُستجابُ لكُم". |